هو العالم الواعظ الشيخ حسن بن حسين بن عبدالرحمن بن الشيخ حسين بن الشيخ عبدالله
بن الشيخ أحمد بن الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالقادر.
قام الأستاذ الدكتور عبدالله بن حسن بكتابة ترجمة مختصرة عن أبيه، فقال:
لم يقف اليتم وقلة ذات اليد دون سعيه للمعالي. فطلب العلم، ونشأ على التقى، في عفة مطبوعة، وورع مجبول، ديدنه التواضع، وطبعه لين العريكة، والمعاملة الحسنة مع الناس، كل الناس. سهر الليالي حافظا للمتون وأمضى نهاره طالبا للعلم، واعظا للمسلمين، آمرا بالخير دالا عليه، حتى أسر قلوب الجميع ، وكسب احترامهم، واستحق تقدير العلماء، وتوقير العامة برهم وفاجرهم. أحبه الله وألقى محبته في قلوب عباده. زهد في الدنيا فأحبه أهلها، وجعل الآخرة نصب عينه فأحبه العلماء. صِنْعَتُهُ الوعظ والإرشاد وإمامة المسلمين، متسلحا بكتاب الله وتفاسيره ومتون الوعظ والارشاد، فالعلم الشرعي عنده وافق قلبا يقطر حبا لله ورسوله وعلماء المسلمين وعامتهم، فأصبح في مجتمعه منذ نعومة أظفاره إمام المسجد، وخطيب المنبر، وملقي دروس الوعظ، وعاقد الأنكحة ومصلح ذات البين.
ولد رحمه الله العام 1328 هـ، وعاش وأخيه عبدالرحمن رحمهما الله يتيمي الأب والأم وتَرَبيا في كنف خالتهما، وقد جمعت الخالة رحمها الله بين حنان الأم و حزم الأب. فدفعت حسن لكتاتيب ذلك الزمان فحفظ القران صغيراً و تعلم القراءة و الكتابة، وشجعته على مصاحبة المشائخ من أسرته، فحضر في صغره دروس العلامة الشيخ عبدالله بن علي و العلامة الشيخ عبدالرحمن بن صالح رحمهما الله، وعندما شب يافعا لازم ملازمة لصيقة معلمه الأول العلامة الشيخ محمد بن عبدالله بن عبدالمحسن رحمه الله، فلم يفوّت لشيخه درسا في مدرسة ولا حديثا في مجالس العلم. ونهل من معين علم عدد من علماء الأحساء في وقته منهم العالم الشيخ صالح بن محمد السعد، و العالم الفرضي الشيخ عبداللطيف بن محمد العفالق، و العالم الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن كثير رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته.
زامله في طلب العلم الشيخ أحمد بن عبداللطيف اليحيى والشيخ علي بن عبدالله الخطيب. شبّ طلبة العلم الثلاثة على الجد في الطلب مابين دروس العلامة الشيخ محمد بن عبدالله نهاراً، والحفظ والمدارسة ليلاً. رُشًح الثلاثة للقضاء فقبله زميلاه فأصبح الشيخ أحمد قاضياً في رأس مشعاب و من بعده في مدن أخرى بالمنطقة الشرقية كابقيق والدمام حتى توفاه الله، وتولى الشيخ على الخطيب القضاء في المبرّز الى مماته رحمها الله. أما الشيخ حسن فقد إمتنع ولم يرضخ للضغوط الكبيرة ليقبل. فقد آنس في نفسه حساً مرهفاً، وعرف في قلبه رقة شديدة، وعرف في عينيه دمعة عند سماع الشكوى تفضح مكنونه. في كل هذا تهديد للحزم المطلوب للقضاء. فمنعه تقاه من قبول القضاء، وما يحمله من جاه ومال فهو المؤهل علما، المرضي تقى، ولكنه في ذات الوقت هو العارف أن القضاء لا يناسب طبعه الرقيق، ونفسه المرهفة.
لم يكتمل شعر ذقنه عندما استدعاه شيخه القاضي الشيخ محمد بن عبدالله الى مجلسه و أخبره أن جماعة مسجد "دريب" وهو مسجد صغير قريب من سوق المبرّز أتوا طالبين منه تعيين إمام لهم، وأنهم رضوا باختياره لتلميذه حسن و أثنوا على الشاب اليافع كل خير، وما بقي الا أن يقبل حسن بمسئوليات الإمامة و التزاماتها. التزامات أوفى بها حسن لمدة قاربت ستين عاما (1349 هـ الى 1406 هـ). ولقد رأيت بأم عيني جماعة المسجد من أبناء الجيل الذي كان مسعاهم سبب إمامته وهم يبكون عندما أعجز الكبر الوالد رحمه الله عن مواصلة الإمامة. لم يكن لدريب إمام مسجد فقط بل كان يقدم دروساً وعظية يومية، ويختم فيه القرآن مرتين في رمضان، وأعاد بناءه على نفقة بعض المحسنين. وكم عقد النكاح في جنباته تطوّعاً، وكم حل من مشاكل اجتماعية لجماعة المسجد، فأصبح "دريب" درباً ومقصداً للكثيرين .
كان لموقع المسجد بالقرب من السوق فرصة سانحة لدعوة أصحاب الدكاكين و المتسوقين للصلاة والأمر بها و الحث عليها. كان يسلّم على القريب صوتا ويشير رافعاً عصاه تعويضا عن المناداة للبعيد. يعيد الكرة كل مرة حتى على من لا يحضر الصلاة معه امعاناً في الدعوة للخير. كنت أصحبه وأنا صغير في رحلته من بيته الى المسجد، فيلفت نظري حرصه على السلام على من يمر عليه سواءً عنده من يعرف و من لا يعرف، و الصغير والكبير، فلا يمر على أحد إلا سلّم عليه، ويصحبه البعض مستفتياً أو شاكياً أو مسلماً بعد سفر فيتحدثان بصوت خافت لا أسمعه. غير أن أحلى ما في صحبته الى المسجد تبسطه معي واستغلاله لهذا الوقت لإرسال جرعات تربوية لم أدرك عظيم أثرها الا بعد حين. كان يقف فجأةً ليزيح حصاة من وسط الطريق الى جانبه، و يلتفت عليّ ليقول "الايمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله الا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق". درس عملي معزّز، يتكرر بوجوه عدة خمس مرات كل يوم فرحمة الله عليه.
تولى الدعوة والإرشاد في المبرز سنة 1371هـ، فكان يطوف بمساجد أحياء السياسب والعيوني والمقابل والقديمات، علاوة على الحديث اليومي والتدريس في مدرسة الزواوي ومدرسة العفالق بالسكار بالعيوني ومدرسة حطاب بالسياسب. وعلاوة على الدروس المنتظمة كان له جولات وعظية في مساجد المبرز، فربما مر على المسجد في الشهر مرة أو مرتين وربما ذهب الى مسجد معيّن بناءً على طلب من إمامه الراتب أو بعض المأمومين لبروز خلاف حول مسألة شرعية بينهم. تولى الخطابة في قرية "الشِعبة" احتساباً الى أن قيّض الله لها خطيبا من أبنائها. وفي وقت تصعب فيه المواصلات تتضح التضحية الجمة، و العناء الكبير، فقد كان يركب دابته في البرد القارس أو في الحر الحارق ليقطع المسافة البعيدة بمقياس تلك الأيام من المبرز الى الشعبة. ومازال أهل الشعبة الطيبون يذكرونه بكل خير ويترحمون عليه.
وسأذكر له موقفاً للدلالة على أريحيته وسجيته الطيبة. أقنعتُه - رحمه الله – بأن نصوم رمضان في العام 1404 هـ في مدينة أبها - المعروفة باعتدال جوها صيفاً - . فقد وافق شهر الصيام فصل الصيف، ولا تسمح له صحته العامة نظرا لكبر سنه واعتلاله بمرض السكري بأن يصوم في الأحساء. وحدث أن مررنا ببائع متجوّل يبيع دهن العود والبخور فسأله الوالد عن سعر البخور، فرد البائع بسعر مبالغ فيه تاركاً مجالا له و لنا للتفاوض و المفاصلة المعتادة في مثل هذه الحالات، فما كان من الوالد الا أن طلب منه أن يزن له مراده، ففغر البائع فاه مندهشاً اذ لم يتوقع الموافقة على سعره الغير معقول، وما كان منه الّا أن خفض من تلقاء نفسه السعر معتذراً. وقد تَعجب وأَعجب من أن الوالد يمر على السوق ذهاباً و جيئةً وهو أقل العارفين بالممارسات به. هذه الثقة الفطرية في الآخرين منبعها الهدي النبوي في البيع والشراء، ألم يقل عليه صلوات ربي وسلامه "رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى"؟
وفي يوم الأحد الرابع من شهر شوال 1410 هـ توفي. لم يترك عند وفاته الا بضع مئين
وبيت متواضع، لم يكن من أهل الدنيا ولم يجد ضيراً في ذلك. دفن بالقرب من حبيبيه
أخيه عبدالرحمن و إبن خاله علي بن حسين في المقبرة الجنوبية بالمبرز، فرحمة الله
عليهم وعلى أموات المسلمين. ولم أجد ما يصف حالتي وحالة جموع المسلمين الذين
تزاحموا للصلاة عليه إلا هذه الابيات:
وقبرت وجهك وانصرفت مودعا
بأبي وأمي وجهك المقبور
فالناس كلهم لفقــدك واجــد
في كل بيت رنـــة وزفيــــر
عجبا لأربع أذرع فى خمســة
في جوفها جبل أشم كبيـــر